فصل: مسألة: صلاة المغرب في الخوف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب صلاة الخوف

صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية وأما السنة فثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يصلي صلاة الخوف‏)‏ وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال أبو يوسف‏:‏ إنما كانت تختص بالنبى - صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ وليس بصحيح فإن ما ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم- ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به فإن الله تعالى أمر باتباعه بقوله‏:‏ ‏(‏فاتبعوه‏)‏ ‏(‏وسئل عن القبلة للصائم‏,‏ فأجاب‏:‏ بأننى أفعل ذلك فقال السائل‏:‏ لست مثلنا فغضب وقال‏:‏ إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى‏,‏ وأعلمكم بما أتقي‏)‏ ولو اختص بفعله لما كان الإخبار بفعله جوابا ولا غضب من قول السائل‏:‏ لست مثلنا لأن قوله - إذا - يكون صوابا وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- يحتجون بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويرونها معارضة لقوله وناسخة له ولذلك لما أخبرت عائشة وأم سلمة ‏(‏بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يصبح جنبا من غير احتلام‏,‏ ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم‏)‏ تركوا به خبر أبي هريرة‏:‏ ‏(‏من أصبح جنبا فلا صوم له‏)‏ ولما ذكروا ذلك لأبي هريرة قال‏:‏ هن أعلم‏,‏ إنما حدثنى به الفضل بن عباس ورجع عن قوله ولو لم يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف‏,‏ فروى أن عليا رضي الله عنه صلى صلاة الخوف ليلة الهدير وصلى أبو موسى الأشعرى صلاة الخوف بأصحابه وروى أن سعيد بن العاص كان أميرا على الجيش بطبرستان فقال‏:‏ أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا فقدمه‏,‏ فصلى بهم فأما تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم- بالخطاب فلا يوجب تخصيصه بالحكم لما ذكرناه ولأن الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ أنكروا على مانعى الزكاة قولهم‏:‏ إن الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏ وهذا لا يختص به فإن قيل‏:‏ فالنبى - صلى الله عليه وسلم- أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل قلنا‏:‏ هذا كان قبل نزول صلاة الخوف‏,‏ وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويكون ناسخا لما قبله ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه إذ لا خلاف في أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان له أن يصلي صلاة الخوف وقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه‏,‏ فلا يجوز الاحتجاج بما يخالف الكتاب والإجماع ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخر الصلاة نسيانا فإنه روى ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سألهم عن صلاتها فقالوا‏:‏ ما صلينا‏)‏ وروى أن عمر ‏(‏قال‏:‏ ما صليت العصر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-‏:‏ والله ما صليتها‏)‏ أو كما جاء‏,‏ ويدل على صحة هذا أنه لم يكن ثم قتال يمنعه من الصلاة فدل على ما ذكرناه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر صلى بطائفة ركعة‏,‏ وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ثم ذهبت تحرس وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو‏,‏ فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم‏]

وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا‏,‏ فإذا كان في سفر يبيح القصر صلى بهم ركعتين بكل طائفة ركعة‏,‏ وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة وإنما يجوز ذلك بشرائط‏:‏ منها أن يكون العدو مباح القتال وأن لا يؤمن هجومه قال القاضي‏:‏ ومن شرطها كون العدو في غير جهة القبلة ونص أحمد على خلاف ذلك‏,‏ في رواية الأثرم فإنه قال‏:‏ قلت له حديث سهل‏,‏ نستعمله مستقبلين القبلة كانوا أو مستدبرين‏؟‏ قال‏:‏ نعم هو أنكى ولأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم أو استتارهم‏,‏ أو الخوف من كمين فالمنع من هذه الصلاة يفضي إلى تفويتها قال أبو الخطاب‏:‏ ومن شرطها أن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر وقال القاضي‏:‏ إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه‏,‏ لأن أحمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- ووجه قولهما أن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم‏}‏ وأقل لفظ الجمع ثلاثة والأولى أن لا يشترط هذا لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة‏,‏ فجاز أن يكون طائفة كالثلاثة وأما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يشترط في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- في العدد وجها واحدا ولذلك اكتفينا بثلاثة ولم يكن كذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- ويستحب أن يخفف بهم الصلاة لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف‏,‏ وكذلك الطائفة التي تفارقه تصلي لنفسها تقرأ بسورة خفيفة ولا تفارقه حتى يستقل قائما لأن النهوض يشتركون فيه جميعا‏,‏ فلا حاجة إلى مفارقتهم إياه قبله والمفارقة إنما جازت للعذر ويقرأ ويتشهد‏,‏ ويطيل في حال الانتظار حتى يدركوه وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ لا يقرأ حال الانتظار بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية‏,‏ ليكون قد سوى بين الطائفتين ولنا أن الصلاة ليس فيها حال سكوت والقيام محل للقراءة‏,‏ فينبغي أن يأتي بها فيه كما في التشهد إذا انتظرهم فإنه يتشهد ولا يسكت كذلك ها هنا‏,‏ والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين والأولى في موضع واحد إذا ثبت هذا فقال القاضي‏:‏ إن قرأ في انتظارهم قرأ بعد ما جاءوا بقدر فاتحة الكتاب وسورة خفيفة وإن لم يقرأ في انتظارهم قرأ إذا جاءوا بالفاتحة وسورة خفيفة‏,‏ وهذا على سبيل الاستحباب ولو قرأ قبل مجيئهم ثم ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعا ركعوا معه وصحت لهم الركعة مع تركه السنة‏,‏ وإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وأطال التشهد بالدعاء والتوسل حتى يدركوه ويتشهدوا ثم يسلم بهم وقال مالك‏:‏ يتشهدون معه‏,‏ فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق وما ذكرناه أولى لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه وفي حديث سهل ‏(‏‏,‏ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة ثم سلم‏)‏ رواه أبو داود وروى أنه سلم بالطائفة الثانية ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام فينبغي أن يسلم بالثانية‏,‏ ليسوى بينهم وبهذا قال مالك والشافعي إلا فيما ذكرنا من الاختلاف وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلي كما روى ابن عمر‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏صلى النبي - صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا‏,‏ وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى لهم النبي - صلى الله عليه وسلم- ركعة‏,‏ ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة‏)‏ متفق عليه وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلي بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة للعدو‏,‏ ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها ثم تجيء الطائفة الأخرى‏,‏ فتصلى مع الإمام الركعة الثانية ثم يسلم الإمام وترجع الطائفة إلى وجه العدو‏,‏ وهي في الصلاة ثم تأتى الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها فتصلى ركعة منفردة ولا تقرأ فيها لأنها في حكم الائتمام‏,‏ ثم تنصرف إلى وجه العدو ثم تأتى الطائفة الأخرى إلى موضع الصلاة فتصلى الركعة الثانية منفردة‏,‏ وتقرأ فيها لأنها قد فارقت الإمام بعد فراغه من الصلاة فحكمها حكم المسبوق إذا فارق إمامه قال‏:‏ وهذا أولى لأنكم جوزتم للمأموم فراق إمامه قبل فراغه من الصلاة وهي الطائفة الأولى‏,‏ وللثانية فراقه في الأفعال فيكون جالسا وهم قيام يأتون بركعة وهم في إمامته ‏.‏

ولنا ما روى ‏(‏صالح بن خوات‏,‏ عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو‏,‏ فصلى بالتى معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم‏,‏ ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته‏,‏ ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم‏)‏ رواه مسلم وروى سهل بن أبي حثمة مثل ذلك‏,‏ والعمل بهذا أولى لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط للصلاة والحرب أما موافقة الكتاب فإن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ يقتضي أن جميع صلاتها معه‏,‏ وعنده تصلي معه ركعة فقط وعندنا جميع صلاتها معه إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه‏,‏ والثانية تأتى بها قبل سلامه ثم تسلم معه ومن مفهوم قوله‏:‏ لم يصلوا أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها‏,‏ وعلى قولهم‏:‏ لم تصل إلا بعضها وأما الاحتياط للصلاة فإن كل طائفة تأتى بصلاتها متوالية بعضها توافق الإمام فيها فعلا‏,‏ وبعضها تفارقه وتأتى به وحدها كالمسبوق وعنده تنصرف في الصلاة فإما أن تمشي‏,‏ وإما أن تركب وهذا عمل كثير وتستدبر القبلة‏,‏ وهذا ينافى الصلاة وتفرق بين الركعتين تفريقا كثيرا بما ينافيها ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمة بالإمام بعد سلامه ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه وأما الاحتياط للحرب‏,‏ فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه من أمر العدو وتحذيره وإعلام الذين مع الإمام بما يحدث‏,‏ ولا يمكن هذا على قولهم ولأن مبنى صلاة الخوف على التخفيف لأنهم في موضع الحاجة إليه وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن لأن كل طائفة تحتاج إلى مضى إلى مكان الصلاة ورجوع إلى وجاه العدو‏,‏ وانتظار لمضى الطائفة الأخرى ورجوعها فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشى ميل‏,‏ وانتظار للأخرى قدر مشى ميل وهي في الصلاة ثم تحتاج إلى تكليف الرجوع إلى موضع الصلاة لإتمام الصلاة من غير حاجة إليه ولا مصلحة تتعلق به فلو احتاج الآمن إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه‏,‏ فكيف يكلف الخائف هذا وهو في مظنة التخفيف والحاجة إلى الرفق به وأما مفارقة الإمام فجائزة للعذر ولا بد منها على القولين‏,‏ فإنهم جوزوا للطائفة الأولى مفارقة الإمام والذهاب إلى وجه العدو وهذا أعظم مما ذكرناه فإنه لا نظير له في الشرع‏,‏ ولا يوجد مثله في موضع آخر‏.‏

فصل

وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز نص عليه أحمد ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن وبهذا قال ابن جرير‏,‏ وبعض أصحاب الشافعي‏.‏

فصل

ولا تجب التسوية بين الطائفتين لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها ومتى خشى اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه‏,‏ ويبنوا على ما مضى من صلاتهم‏.‏

فصل

فإن صلوا الجمعة صلاة الخوف جاز إذا كانت كل طائفة أربعين فإن قيل‏:‏ فالعدد شرط في الجمعة كلها ومتى ذهبت الطائفة الأولى بقي الإمام منفردا‏,‏ فتبطل كما لو نقص العدد فالجواب‏:‏ أن هذا جاز لأجل العذر ولأنه يترقب مجيء الطائفة الأخرى بخلاف الانفضاض ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين‏,‏ ويصلى بالأخرى حتى يصلي معه من حضر الخطبة وبهذا قال الشافعي‏.‏

فصل

والطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقة الإمام فإن سها لحقهم حكم سهوه فيما قبل مفارقته‏,‏ وإن سهوا لم يلزمهم حكم سهوهم لأنهم مأمومون وأما بعد مفارقته‏:‏ فإن سها لم يلزمهم حكم سهوه فإن سهوا لحقهم حكم سهوهم لأنهم منفردون وأما الطائفة الثانية‏,‏ فيلحقها حكم سهو إمامها في جميع صلاته ما أدركت منها وما فاتها كالمسبوق يلحقه حكم سهو إمامه فيما لم يدركه ولا يلحقها حكم سهوها في شيء من صلاتها لأنها إن فارقته فعلا لقضاء ما فاتها‏,‏ فهي في حكم المؤتم به لأنهم يسلمون بسلامه فإذا فرغت من قضاء ما فاتها‏,‏ سجد وسجدت معه فإن سجد الإمام قبل إتمامها سجدت لأنها مؤتمة به فيلزمها متابعته‏,‏ ولا تعيد السجود بعد فراغها من التشهد لأنها لم تنفرد عن الإمام فلا يلزمها من السجود أكثر مما يلزمه‏,‏ بخلاف المسبوق وقال القاضي‏:‏ ينبنى هذا على الروايتين في المسبوق إذا سجد مع إمامه ثم قضى ما عليه وقد ذكرنا الفرق بينهما‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين‏,‏ وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة‏]

وجملة ذلك أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريبا من البلد وبه قال الأوزاعي‏,‏ والشافعي وحكي عن مالك أنها لا تجوز في الحضر لأن الآية إنما دلت على صلاة ركعتين وصلاة الحضر أربعا ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها في الحضر وخالفه أصحابه‏,‏ فقالوا كقولنا ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ الآية وهذا عام في كل حال‏,‏ وترك النبي - صلى الله عليه وسلم- فعلها في الحضر إنما كان لغناه عن فعلها في الحضر وقولهم‏:‏ إنما دلت الآية على ركعتين قلنا‏:‏ وقد يكون في الحضر ركعتان الصبح والجمعة والمغرب ثلاث‏,‏ ويجوز فعلها في الخوف في السفر ولأنها حالة خوف فجازت فيها صلاة الخوف كالسفر‏,‏ فإذا صلى بهم الرباعية صلاة الخوف فرقهم فرقتين فصلى بكل طائفة ركعتين‏,‏ وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد الأول أو حين يقوم إلى الثالثة‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما حين قيامه إلى الثالثة وهو قول مالك‏,‏ والأوزاعي لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار والتشهد يستحب تخفيفه ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا جلس للتشهد كأنه على الرضف حتى يقوم ولأن ثواب القائم أكثر‏,‏ ولأنه إذا انتظرهم جالسا فجاءت الطائفة فإنه يقوم قبل إحرامهم‏,‏ فلا يحصل اتباعهم له في القيام والثاني في التشهد لتدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة ولأن الانتظار في الجلوس أخف على الإمام‏,‏ ولأنه متى انتظرهم قائما احتاج إلى قراءة السورة في الركعة الثالثة وهو خلاف السنة وأيا ما فعل كان جائزا وإذا جلس الإمام للتشهد الأخير جلست الطائفة معه‏,‏ فتشهدت التشهد الأول وقامت وهو جالس فأتمت صلاتها وتقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة لأن ما تقضيه أول صلاتها‏,‏ ولأنها لم يحصل لها مع الإمام قراءة السورة ويطول الإمام التشهد والدعاء حتى تصلي الركعتين ثم يتشهد ويسلم بهم فأما الطائفة الأولى فإنما تقرأ في الركعتين بعد مفارقة إمامها الفاتحة وحدها لأنها آخر صلاتها وقد قرأ إمامها بها السورة في الركعتين الأوليين‏,‏ وظاهر المذهب أن ما تقضيه الطائفة الثانية أول صلاتها فعلى هذا تستفتح إذا فارقت إمامها وتستعيذ‏,‏ وتقرأ الفاتحة وسورة وقد روى أنه آخر صلاتها ومقتضاه ألا تستفتح ولا تستعيذ ولا تقرأ السورة وعلى كل حال فينبغي لها أن تخفف وإن قرأت سورة فلتكن من أخف السور‏,‏ أو تقرأ آية أو اثنتين من سورة وينبغى للإمام أن لا يعجل بالسلام حتى يفرغ أكثرهم من التشهد فإن سلم قبل فراغ بعضهم أتم تشهده وسلم

فصل

واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق‏,‏ فروى أنه أول صلاته وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب وكذلك قال ابن عمر ومجاهد‏,‏ وابن سيرين ومالك والثوري‏,‏ وحكي عن الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف‏,‏ والحسن بن حى وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز‏,‏ ومكحول وعطاء والزهري‏,‏ والأوزاعي وإسحاق والمزني‏,‏ وأبو ثور وهو قول الشافعي ورواية عن مالك لقول النبي‏:‏ ‏(‏وما فاتكم فأتموا‏)‏ متفق عليه ولأنه آخر صلاته حقيقة فكان آخرها حكما‏,‏ كغير المسبوق ولأنه يتشهد في آخر ما يقضيه ويسلم ولو كان أول صلاته لما تشهد وكان يكفيه تشهده مع الإمام وللرواية الأولى قوله‏:‏ ‏(‏وما فاتكم فاقضوا‏)‏ وهو صحيح‏,‏ ولأنه يسمى قضاء والقضاء للفائت والفائت أول الصلاة‏,‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏"‏ فأتموا ‏"‏ أي اقضوا لأن القضاء إتمام ولذلك سماه فائتا والفائت أول الصلاة‏,‏ ولأنه يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة فكان أول الصلاة كغير المسبوق ولا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة قال ابن عبد البر‏:‏ كل هؤلاء القائلين بالقولين جميعا يقولون‏:‏ يقضى ما فاته بالحمد لله وسورة‏,‏ على حسب ما قرأ إمامه إلا إسحاق والمزني وداود قالوا‏:‏ يقرأ بالحمد وحدها وعلى قول من قال‏:‏ إنه يقرأ في القضاء بالفاتحة وسورة‏,‏ لا تظهر فائدة الخلاف إلا أن يكون في الاستفتاح والاستعاذة حال مفارقة الإمام وفي موضع الجلسة للتشهد الأول‏,‏ في حق من أدرك ركعة من المغرب والرباعية والله أعلم‏.‏

فصل

واختلفت الرواية في موضع الجلسة والتشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب أو الرباعية إذا قضى‏,‏ فروى عن أحمد أنه إذا قام استفتح وصلى ركعتين متواليتين يقرأ في كل واحدة بالحمد لله وسورة نص عليه في رواية حرب‏,‏ وفعل ذلك جندب وذلك لأنهما أول صلاته فلم يتشهد بينهما كغير المسبوق ولأن القضاء على صفة الأداء‏,‏ والأداء لا جلوس فيه ولأنهما ركعتان يقرأ في كل واحدة منهما بالحمد لله وسورة فلم يجلس بينهما كالمؤداتين والرواية الثانية أنه يقوم فيأتى بركعة‏,‏ يقرأ فيها بالحمد لله وسورة ثم يجلس ثم يقوم فيأتى بأخرى بالحمد لله وسورة‏,‏ في المغرب أو بركعتين متواليتين في الرباعية يقرأ في أولاها بالحمد لله وسورة‏,‏ وفي الثانية بالحمد وحدها نقلها صالح وأبو داود والأثرم وفعل ذلك مسروق وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كما فعل مسروق يفعل وهو قول سعيد بن المسيب‏,‏ فإنه روى عنه أنه قال للزهرى‏:‏ ما صلاة يجلس في كل ركعة منها‏؟‏ قال سعيد‏:‏ هي المغرب إذا أدركت منها ركعة ولأن الثالثة آخر صلاته فعلا فيجب أن يجلس قبلها كغير المسبوق وقد روى الأثرم‏,‏ بإسناده عن إبراهيم قال‏:‏ جاء جندب ومسروق إلى المسجد وقد صلوا ركعتين من المغرب فدخلا في الصف فقرأ جندب في الركعة التي أدرك مع الإمام‏,‏ ولم يقرأ مسروق فلما سلم الإمام قاما في الركعة الثانية فقرأ جندب وقرأ مسروق‏,‏ وجلس مسروق في الركعة الثانية وقام جندب وقرأ مسروق في الركعة الثالثة ولم يقرأ جندب فلما قضيا الصلاة أتيا عبد الله فسألاه عن ذلك وقصا عليه القصة‏,‏ فقال عبد الله‏:‏ كما فعل مسروق يفعل وقال عبد الله‏:‏ إذا أدركت ركعة من المغرب فاجلس فيهن كلهن وأيا ما فعل من ذلك جاز -إن شاء الله تعالى- ولذلك لم ينكر عبد الله على جندب فعله ولا أمره بإعادة صلاته‏.‏

فصل

إذا فرقهم في الرباعية فرقتين‏,‏ فصلى بالأولى ثلاث ركعات وبالثانية ركعة أو بالأولى ركعة وبالثانية ثلاثا‏,‏ صحت الصلاة لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بمثلهما وبهذا قال الشافعي إلا أنه قال‏:‏ يسجد للسهو ولا حاجة إليه لأن السجود للسهو ولا سهو ها هنا‏,‏ ولو قدر أنه فعله ساهيا لم يحتج إلى سجود لأنه مما لا يبطل عمده الصلاة فلا يسجد لسهوه كما لو رفع يديه في غير موضع الرفع وترك رفعهما في موضعه فأما إن فرقهم أربع فرق‏,‏ فصلى في كل طائفة ركعة أو ثلاث فرق فصلى بإحداهن ركعتين وبالباقين ركعة ركعة صحت صلاة الأولى والثانية‏,‏ لأنهما ائتما بمن صلاته صحيحة ولم يوجد منهما ما يبطل صلاتهما وتبطل صلاة الإمام بالانتظار الثالث لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فزاد انتظارا لم يرد الشرع به‏,‏ فتبطل صلاته به كما لو فعله من غير خوف ولا فرق بين أن تكون به حاجة إلى ذلك أو لم يكن لأن الرخص إنما يصار فيها إلى ما ورد الشرع به ولا تصح صلاة الثالثة والرابعة لائتمامها بمن صلاته باطلة‏,‏ فأشبه ما لو كانت صلاته باطلة من أولها فإن لم يعلما ببطلان صلاة الإمام فقال ابن حامد‏:‏ لا تبطل صلاتهما لأن ذلك مما يخفى فلم تبطل صلاة المأموم‏,‏ كما لو ائتم بمحدث وينبغى على هذا أن يخفى على الإمام والمأموم كما اعتبرنا في صحة صلاة من ائتم بمحدث - خفاءه على الإمام والمأموم ويحتمل أن لا تصح صلاتهما لأن الإمام والمأموم يعلمان وجود المبطل وإنما خفي عليهم حكمه‏,‏ فلم يمنع ذلك البطلان كما لو علم الإمام والمأموم حدث الإمام ولم يعلما كونه مبطلا وقال بعض أصحاب الشافعي كقول ابن حامد وقال بعضهم‏:‏ تصح صلاة الإمام والمأمومين جميعا لأن الحاجة تدعو إلى ذلك‏,‏ فأشبه ما لو فرقهم فرقتين وقال بعضهم‏:‏ المنصوص أن صلاتهم تبطل بالانتظار الأول لأنه زاد على انتظار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زيادة لم يرد الشرع بها ولنا على الأول أن الرخص إنما تتلقى من الشرع ولم يرد الشرع بهذا وعلى الثاني‏,‏ أن طول الانتظار لا عبرة به كما لو أبطأت الثانية فيما إذا فرقهم فرقتين‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإن كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأولى ركعتين وأتمت لأنفسها ركعة تقرأ فيها بالحمد لله‏,‏ ويصلى بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين تقرأ فيهما بالحمد لله وسورة‏]

وبهذا قال مالك‏,‏ والأوزاعي وسفيان والشافعي في أحد قوليه وقال في آخر‏:‏ يصلي بالأولى ركعة‏,‏ والثانية ركعتين لأنه روى عن على رضي الله عنه أنه صلى ليلة الهدير هكذا ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام والتقدم‏,‏ فينبغي أن تزيد الثانية في الركعات ليجبر نقصهم وتساوى الأولى ولنا أنه إذا لم يكن بد من التفضيل‏,‏ فالأولى أحق به ولأنه يجبر ما فات الثانية بإدراكها السلام مع الإمام ولأنها تصلي جميع صلاتها في حكم الائتمام‏,‏ والأولى تفعل بعض صلاتها في حكم الانفراد وأيا ما فعل فهو جائز على ما قدمنا وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة‏؟‏ على وجهين وإذا صلى بالثانية الركعة الثالثة‏,‏ وجلس للتشهد فإن الطائفة تقوم ولا تتشهد معه ذكره القاضي لأنه ليس بموضع لتشهدها بخلاف الرباعية ويحتمل أن تتشهد معه‏,‏ لأنها تقضى ركعتين متواليتين على إحدى الروايتين فيفضى إلى أن تصلي ثلاث ركعات بتشهد واحد‏,‏ ولا نظير لهذا في الصلوات فعلى هذا الاحتمال تتشهد معه التشهد الأول ثم تقوم‏,‏ كالصلاة الرباعية سواء‏.‏

فصل

ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏ ولأنهم لا يأمنون أن يفجأهم عدوهم فيميلون عليهم‏,‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ والمستحب من ذلك ما يدفع عن نفسه كالسيف والسكين ولا يثقله‏,‏ كالجوشن ولا يمنع من إكمال السجود كالمغفر‏,‏ ولا ما يؤذى غيره كالرمح إذا كان متوسطا فإن كان في الحاشية لم يكره‏,‏ ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن من أركان الصلاة إلا عند الضرورة مثل أن يخاف وقوع الحجارة أو السهام به‏,‏ فيجوز له حمله للضرورة قال أصحابنا‏:‏ ولا يجب حمل السلاح وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أهل العلم وأحد قولي الشافعي لأنه لو وجب لكان شرطا في الصلاة كالسترة ولأن الأمر به للرفق بهم والصيانة لهم‏,‏ فلم يكن للإيجاب كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن الوصال رفقا بهم لم يكن للتحريم ويحتمل أن يكون واجبا وبه قال داود‏,‏ والشافعي في القول الآخر والحجة معهم لأن ظاهر الأمر الوجوب وقد اقترن به ما يدل على إرادة الإيجاب به‏,‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم‏}‏ ونفى الحرج مشروطا بالأذى دليل على لزومه عند عدمه فأما إن كان بهم أذى من مطر أو مرض فلا يجب بغير خلاف‏,‏ بتصريح النص بنفى الحرج فيه‏.‏

فصل

ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال أحمد‏:‏ كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز وقال‏:‏ ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كلها جائز وقال الأثرم‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه أو تختار واحدا منها قال‏:‏ أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن‏,‏ وأما حديث سهل فأنا أختاره إذا تقرر هذا فنذكر الوجوه التي بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى عليها وقد ذكرنا منها وجهين أحدهما ما ذكره الخرقي‏,‏ وهو حديث سهل والثاني حديث ابن عمر وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والثالث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- بعسفان‏,‏ وهو ما روى أبو عياش الزرقى قال ‏(‏كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون‏:‏ لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صف‏,‏ وصف خلف ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه‏,‏ وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم‏,‏ ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وركعوا جميعا‏,‏ ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والصف الذي يليه سجد الآخرون‏,‏ ثم جلسوا جميعا فسلم عليهم فصلاها بعسفان‏,‏ وصلاها يوم بنى سليم‏)‏ رواه أبو داود وروى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- نحو هذا المعنى أخرجه مسلم وروي عن حذيفة أنه أمر سعيد بن العاص بطبرستان حين سألهم‏:‏ أيكم شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أنا وأمره بنحو هذه الصلاة وقال‏:‏ وتأمر أصحابك إن هاجهم هيج فقد حل لهم القتال والكلام رواه الأثرم بإسناده وإن حرس الصف الأول في الأولى‏,‏ والثاني في الثانية أو لم يتقدم الثاني إلى مقام الأول أو حرس بعض الصف وسجد الباقون‏,‏ جاز ذلك كله لأن المقصود يحصل لكن الأولى فعل مثلما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن شرط هذه الصلاة أن يكون العدو في جهة القبلة لأنه لا يمكن حراستهم في الصلاة إلا كذلك وأن يكونوا بحيث لا يخفى بعضهم على بعض‏,‏ ولا يخاف كمين لهم‏.‏

فصل

الوجه الرابع أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها‏,‏ كما روى أبو بكرة‏:‏ قال ‏(‏صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو‏,‏ فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم‏,‏ ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- أربع‏,‏ ولأصحابه ركعتان‏)‏ أخرجه أبو داود والأثرم وهذه صفة حسنة قليلة الكلفة‏,‏ لا يحتاج فيها إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة وهذا مذهب الحسن وليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين‏.‏

فصل

الوجه الخامس أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين‏,‏ ولا يسلم ثم تسلم الطائفة وتنصرف ولا تقضى شيئا وتأتى الطائفة الأخرى‏,‏ فيصلى بها ركعتين ويسلم بها ولا تقضى شيئا وهذا مثل الوجه الذي قبله‏,‏ إلا أنه لا يسلم في الركعتين الأوليين لما روى جابر قال‏:‏ ‏(‏أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث قال‏:‏ فنودى بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين‏,‏ ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال‏:‏ وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين‏)‏ متفق عليه وتأول القاضي هذا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى بهم كصلاة الحضر‏,‏ وأن كل طائفة قضت ركعتين وهذا ظاهر الفساد جدا لأنه يخالف صفة الرواية وقول أحمد ويحمله على محمل فاسد أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين‏,‏ ولم يذكر قضاء ثم قال في آخرها‏:‏ وللقوم ركعتين ركعتين وأما قول أحمد فإنه قال‏:‏ ستة أوجه أو سبعة‏,‏ يروى فيها كلها جائز وعلى هذا التأويل لا تكون ستة ولا خمسة ولأنه قال‏:‏ كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو جائز وهذا مخالف لهذا التأويل وأما فساد المحمل فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها‏,‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ وعلى هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعا ويتم الصلاة المقصورة ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أتم صلاة السفر فكيف يحمل ها هنا على أنه أتمها‏,‏ في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف‏.‏

فصل

الوجه السادس أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضى شيئا لما روى ابن عباس‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بذى قرد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة فصف صفا خلفه‏,‏ وصفا موازى العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء‏,‏ ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم‏,‏ فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- ركعتان وكانت لهم ركعة ركعة‏)‏ رواه الأثرم وعن حذيفة ‏(‏أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة‏,‏ ولم يقضوا شيئا‏)‏ رواه أبو داود وروى مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة رواهن الأثرم وكذلك قال أبو داود في ‏"‏ السنن ‏"‏ وهو مذهب ابن عباس‏,‏ وجابر قال‏:‏ إنما القصر ركعة عند القتال وقال طاوس ومجاهد والحسن وقتادة‏,‏ والحكم كذا يقولون‏:‏ ركعة في شدة الخوف يومئ إيماء وقال إسحاق‏:‏ يجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماء‏,‏ فإن لم يقدر فسجدة واحدة فإن لم يقدر فتكبيرة لأنها ذكر لله تعالى وعن الضحاك‏,‏ أنه قال‏:‏ ركعة فإن لم يقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهه فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجها سادسا سواها‏,‏ وأصحابنا ينكرون ذلك قال القاضي‏:‏ لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر والنخعي والثوري‏,‏ ومالك والشافعي وأبو حنيفة‏,‏ وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة والذي قال منهم ركعة‏,‏ إنما جعلها عند شدة القتال والذين روينا عنهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي - صلى الله عليه وسلم- في غزواته ولا يعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره‏,‏ فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم- أولى‏.‏

فصل

ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف فصلاته وصلاتهم فاسدة لأنها لا تخلو من مفارق إمامه لغير عذر‏,‏ وتارك متابعة إمامه في ثلاثة أركان أو قاصر للصلاة مع إتمام إمامه وكل ذلك يفسد الصلاة‏,‏ إلا مفارقة الإمام لغير عذر على اختلاف فيه وإذا فسدت صلاتهم فسدت صلاة الإمام لأنه صلى إماما بمن صلاته فاسدة‏,‏ إلا أن يصلي بهم صلاتين كاملتين فإنه تصح صلاته وصلاة الطائفة الأولى وصلاة الثانية تبنى على ائتمام المفترض بالمتنفل‏,‏ وقد نصرنا جوازه‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة صلوا رجالا وركبانا‏,‏ إلى القبلة وإلى غيرها يومئون إيماء يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا‏,‏ أو إلى غيرها‏]

أما إذا اشتد الخوف والتحم القتال فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالا وركبانا‏,‏ إلى القبلة إن أمكنهم وإلى غيرها إن لم يمكنهم يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة‏,‏ ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون‏,‏ ويكرون ويفرون ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى‏:‏ لا يصلي مع المسايفة‏,‏ ولا مع المشى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يصل يوم الخندق وأخر الصلاة ولأن ما منع الصلاة في غير شدة الخوف منعها معه‏,‏ كالحدث والصياح وقال الشافعي‏:‏ يصلي ولكن إن تابع الطعن أو الضرب‏,‏ أو المشى أو فعل ما يطول بطلت صلاته لأن ذلك من مبطلات الصلاة‏,‏ أشبه الحدث ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم‏,‏ وركبانا مستقبلى القبلة وغير مستقبليها متفق عليه وروى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى بأصحابه في غير شدة الخوف فأمرهم بالمشى إلى وجاه العدو ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم‏,‏ وهذا مشى كثير وعمل طويل واستدبار للقبلة‏,‏ وأجاز ذلك من أجل الخوف الذي ليس بشديد فمع الخوف الشديد أولى ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة وسوغه مع الغنى عنه‏,‏ وإمكان الصلاة بدونه ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه وكان العكس أولى‏,‏ سيما مع نص الله تعالى على الرخصة في هذه الحال ولأنه مكلف تصح طهارته فلم يجز له إخلاء وقت الصلاة عن فعلها‏,‏ كالمريض ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح من أجل الخوف فلم تبطل الصلاة به‏,‏ كاستدبار القبلة والركوب والإيماء ولأنه لا يخلو عند الحاجة إلى العمل الكثير من أجل ثلاثة أمور‏:‏ إما تأخير الصلاة عن وقتها‏,‏ ولا خلاف بيننا في تحريمه أو ترك القتال وفيه هلاكه وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ وأجمع المسلمون على أنه لا يلزمه هذا‏,‏ أو متابعة العمل للمتنازع فيه وهو جائز بالإجماع فتعين فعله وصحة الصلاة معه ثم ما ذكره يبطل بالمشى الكثير‏,‏ والعدو في الهرب وغيره وأما تأخير الصلاة يوم الخندق فروى أبو سعيد أنه كان قبل نزول صلاة الخوف ويحتمل أنه شغله المشركون فنسى الصلاة‏,‏ فقد نقل ما يدل على ذلك وقد ذكرناه فيما مضى وأكده أن النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب قطع الصلاة وأما الصياح‏,‏ والحدث فلا حاجة بهم إليه ويمكنهم التيمم‏,‏ ولا يلزم من كون الشيء مبطلا مع عدم العذر أن يبطل معه كخروج النجاسة من المستحاضة ومن به سلس البول وإن هرب من العدو هربا مباحا‏,‏ أو من سيل أو سبع أو حريق لا يمكنه التخلص منه بدون الهرب فله أن يصلي صلاة شدة الخوف‏,‏ سواء خاف على نفسه أو ماله أو أهله والأسير إذا خافهم على نفسه إن صلى‏,‏ والمختفى في موضع يصليان كيفما أمكنهما نص عليه أحمد في الأسير ولو كان المختفى قاعدا لا يمكنه القيام أو مضجعا لا يمكنه القعود‏,‏ ولا الحركة صلى على حسب حاله وهذا قول محمد بن الحسن وقال الشافعي‏:‏ يصلي ويعيد وليس بصحيح لأنه خائف صلى على حسب ما يمكنه فلم تلزمه الإعادة كالهارب ولا فرق بين الحضر والسفر في هذا لأن المبيح خوف الهلاك‏,‏ وقد تساويا فيه ومتى أمكن التخلص بدون ذلك كالهارب من السيل يصعد إلى ربوة‏,‏ والخائف من العدو يمكنه دخول حصن يأمن فيه صولة العدو ولحوق الضرر فيصلى فيه‏,‏ ثم يخرج لم يكن له أن يصلي صلاة شدة الخوف لأنها إنما أبيحت للضرورة فاختصت بوجود الضرورة‏.‏

فصل

والعاصى بهربه كالذي يهرب من حق توجه عليه‏,‏ وقاطع الطريق واللص والسارق‏,‏ ليس له أن يصلي صلاة الخوف لأنها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل مباح فلا تثبت بالمعصية كرخص السفر‏.‏

فصل

قال أصحابنا‏:‏ يجوز أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة‏,‏ رجالا وركبانا ويحتمل أن لا يجوز ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنهم يحتاجون إلى التقدم والتأخر وربما تقدموا الإمام‏,‏ وتعذر عليهم الائتمام واحتج أصحابنا بأنها حالة يجوز فيها الصلاة على الانفراد فجاز فيها صلاة الجماعة كركوب السفينة‏,‏ ويعفى عن تقدم الإمام للحاجة إليه كالعفو عن العمل الكثير ولمن نصر الأول أن يقول‏:‏ العفو عن ذلك لا يثبت إلا بنص أو معنى نص ولم يوجد واحد منهما‏,‏ وليس هذا في معنى العمل الكثير لأن العمل الكثير لا يختص الإمامة بل هو في حال الانفراد كحال الائتمام‏,‏ فلا يؤثر الانفراد في نفسه بخلاف تقدم الإمام‏.‏

فصل

وإذا صلوا صلاة الخوف ظنا منهم أن ثم عدوا فبان أنه لا عدو‏,‏ أو بان عدو لكن بينهم وبينه ما يمنع عبوره إليهم فعليهم الإعادة سواء صلوا صلاة شدة الخوف أو غيرها‏,‏ وسواء كان ظنهم مستندا إلى خبر ثقة أو غيره أو رؤية سواد أو نحوه لأنهم تركوا بعض واجبات الصلاة ظنا منهم سقوطها‏,‏ فلزمتهم الإعادة كما لو ترك المتوضئ غسل رجليه ومسح على خفيه‏,‏ ظنا منه أن ذلك يجزئ عنه وصلى ثم تبين أن خفه كان مخرقا وكما لو ظن المحدث أنه متطهر فصلى ويحتمل أن لا تلزم الإعادة إذا كان عدوا بينهم وبينه ما يمنع العبور لأن السبب للخوف متحقق‏,‏ وإنما خفي المانع‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن وكذلك إن كان آمنا فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف‏]‏

وجملته أنه إذا صلى بعض الصلاة حال شدة الخوف مع الإخلال بشيء من واجباتها‏,‏ كالاستقبال وغيره فأمن في أثناء الصلاة أتمها آتيا بواجباتها‏,‏ فإذا كان راكبا إلى غير القبلة نزل مستقبل القبلة وإن كان ماشيا‏,‏ وقف واستقبل القبلة وبنى على ما مضى لأن ما مضى كان صحيحا قبل الأمن فجاز البناء عليه‏,‏ كما لو لم يخل بشيء من الواجبات وإن ترك الاستقبال حال نزوله أو أخل بشيء من واجباتها بعد أمنه فسدت صلاته وإن ابتدأ الصلاة آمنا بشروطها وواجباتها‏,‏ ثم حدث شدة خوف أتمها على حسب ما يحتاج إليه‏,‏ مثل أن يكون قائما على الأرض مستقبلا فيحتاج أن يركب ويستدبر القبلة أتمها على حسب ما يحتاج إليه‏,‏ ويطعن ويضرب ونحو ذلك فإنه يصير إليه ويبنى على ما مضى من صلاته وحكي عن الشافعي أنه إذا أمن نزل فبنى‏,‏ وإذا خاف فركب ابتدأ لأن الركوب عمل كثير ولا يصح لأن الركوب قد يكون يسيرا فمثله في حق الآمن لا يبطل ففي حق الخائف أولى كالنزول‏,‏ ولأنه عمل أبيح للحاجة فلم يمنع صحة الصلاة كالهرب‏.‏